بسم الله الرحمن الرحيم
قضاء القاضي بعلمه الشخصي
بقلم د. هاني السباعي مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن
تقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسولنا الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وأصحابه أجمعين. وبعد:
هذا بحث شرعي مفصل ومبسط نقدمه لطلبة العلم وللمشتغلين بالقضاء الشرعي وأيضاً للدارسين للفقه المقارن. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون عملنا خالصاً لوجهه الكريم.
ولمحاولة فهم هذه القضية (قضاء القاضي بعلمه الشخصي) نسوقها في الصورة التالية:
إذا توافرت لدى القاضي معلومات شخصية في الدعوى، كان قد شهد وقوع حادثة من الحوادث ثم رفعت إليه للنظر فيها، فهل يجوز له الحكم اعتماداً على هذه المعلومات التي حصل عليها خارج الجلسة وفي غير نطاق المرافعات والمناقشات التي جرت فيها؟
في هذا الصدد توجد بوجه عام مدرستان في الفقه الإسلامي: الأولى تنادي بعدم جواز أن يحكم القاضي بعلمه أصلاً سواء في حقوق الله أو حقوق العباد. والثانية ترى جواز ذلك وفي داخل المدرسة الثانية يوجد ثلاث اتجاهات: الأول: يذهب إلى جواز قضاء القاضي بعلمه في سائر الحقوق سواء ما كان منها حقاً خالصاً للعبد أو حقاً مشتركاً بينهما، علم ذلك في زمان ولايته أو قبله في مصره الذي يقضي فيه أو في غيره. الثاني: فيرى أن القاضي لا يقضي بعلمه في الحدود التي هي حق خالص لله ويقضي بعلمه فيما عداها سواء على هذا زمن الولاية أو قبلها في مصرها أو في غير مصرها. أما الاتجاه الثالث: فيقصر حكم القاضي على ما علمه في زمان الولاية في مصرها.
المدرسة الأولى: عدم جواز أن يحكم القاضي بعلمه الشخصي:
يرى أنصار هذه المدرسة أنه ليس للقاضي أن يحكم بعلمه في أي حق من الحقوق، تستوي في ذلك حقوق الله وحقوق الآدميين. وإلى هذا ذهب مالك وأحمد في المشهور عنه والشافعي في أحد قوليه.
قال في تبصرة الحكام: "فقال مالك وابن القاسم: لا يحكم بعلمه في ذلك. وقال عبد المالك: يحكم وعليه قضاة المدينة، ولا أعلم أن مالكاً قال غيره. وبه قال مطرف وسحنون وأصبغ، والأول هو المشهور" يقصد ابن فرحون الأشهر هو قول مالك وابن القسم القائل بألا يحكم القاضي بعلمه. لذلك قال تعليقاً على رأي عبد الملك وسحنون: "قال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن في مسائله: قول ابن القاسم أصح لفساد الزمان، ولو أدرك عبد الملك وسحنون زماننا لرجعا عما قالاه، لو أخذ بقولهم لذهبت أموال الناس وحكم عليهم بما لم يقروا به"
جاء في المعيار المعرب " وسئل أبو بكر بن مغيث عن قول مالك: لا يقضي القاضي بعلمه. فأجاب: إنما رأى ذلك مالك لأنه لا يجوز إنفاذ حكم إلا بعد الإعذار، والقاضي إذا قضى بعلمه لا يجوز له أن يقول إنني علمت هذا الحق قبله فأعذرت إليه في نفسي فلم يأت فيه بمدفع فيكون ذلك خلافاً لنص الكتاب قال الله تعالى: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) فهذا وجه من الإعذار"
وفي المذهب الحنبلي: قال الخرقي: (ولا يحكم الحاكم بعلمه) ظاهر المذهب أن الحاكم لا يحكم بعلمه في حد ولا غيره لا فيما علمه قبل الولاية ولا بعدها. وهذا قول شريح والشعبي ومالك وإسحاق وأبي عبيد ومحمد بن الحسن وهو أحد قولي الشافعي"
ودليلهم في ذلك:
(أ) قوله تعالى:
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)
وجه الدلالة: لقد أمر الله سبحانه وتعالى بجلدهم إذا لم يأتوا ببينة، وإن علم القاضي صدقهم.
(ب) وما أخرجه مسلم عن ابن عباس في قصة الملاعنة:
قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُهَا »
وجه الدلالة: ظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم علم وقوع الزنا من هذه المرأة ولم يرجمها لعدم البينة على زناها، فدل هذا على عدم جواز قضاء القاضي بعلمه الشخصي.
(ج) وحديث أُمِّ سَلَمَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا »
وجه الدلالة: في هذا الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم إنه إنما يبني حكمه على ما سمعه من حجج الخصمين لا على مجرد علمه الشخصي.
(د) حديث الأشعث بن قيس الكندي:
"َانَ بَيْنِى وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِى شَىْءٍ ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ "
وجه الدلالة في هذا الحديث أنه قد أفاد أن الإثبات لا يكون إلا بالشاهدين أو اليمين، ودل هذا على أن علم القاضي لا يجوز القضاء به لأنه ليس واحداً منهما (الشهادة أو اليمين).
(هـ) حديث عيسى بن مريم عليه السلام:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ رَجُلاً يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ أَسَرَقْتَ قَالَ لاَ وَاللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ. قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ بَصَرِى »
وجه الدلالة: ففي هذا الحديث لم يعمل عيسى عليه السلام بعلمه الشخصي وقبل يمين السارق مع أنه كاdick يقيناً. فلو كان القضاء بالعلم الشخصي مشروعاً لأقام عليه حد السرقة.
(و) قصة أبي جهم بن حذافة:
عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ أَبَا جَهْمِ بْنَ حُذَيْفَةَ مُصَدِّقًا فَلاَجَّهُ رَجُلٌ فِى صَدَقَتِهِ فَضَرَبَهُ أَبُو جَهْمٍ فَشَجَّهُ فَأَتَوُا النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا الْقَوَدَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « لَكُمْ كَذَا وَكَذَا ». فَلَمْ يَرْضَوْا فَقَالَ « لَكُمْ كَذَا وَكَذَا ». فَلَمْ يَرْضَوْا فَقَالَ « لَكُمْ كَذَا وَكَذَا ». فَرَضُوا. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنِّى خَاطِبٌ الْعَشِيَّةَ عَلَى النَّاسِ وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ ». فَقَالُوا نَعَمْ. فَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « إِنَّ هَؤُلاَءِ اللَّيْثِيِّينَ أَتَوْنِى يُرِيدُونَ الْقَوَدَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ كَذَا وَكَذَا فَرَضُوا أَرَضِيتُمْ ». قَالُوا لاَ. فَهَمَّ الْمُهَاجِرُونَ بِهِمْ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُمْ فَكَفُّوا ثُمَّ دَعَاهُمْ فَزَادَهُمْ فَقَالَ « أَرَضِيتُمْ ». فَقَالُوا نَعَمْ. قَالَ « إِنِّى خَاطِبٌ عَلَى النَّاسِ وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ ». قَالُوا نَعَمْ. فَخَطَبَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « أَرَضِيتُمْ ». قَالُوا نَعَمْ."
وجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بعلمه مع أنه عرضه عليهم أول الأمر، فلو كان القضاء بمجرد العلم جائزاً لما اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم إنكارهم ولحكم عليهم بمقتضى علمه الشخصي.