رفع المضرة دعوى انتــجها العمل القـــضائي من حيث تسميتها ويـــكاد " يجمع فقه القضاء على إعتبار الفصل 99 م ا ع أساسا قانونيا لها." وهو فصل ينطبق في الحقيقة على صورة مخصوصة من صور المسؤولية التقصيرية وهي مضار الجوار ( les troubles de voisinages ) ويستمد جذوره حسب بعض المؤلفين من الفقه الاسلامي قرآنا وسنة في قوله تعالى في سورة النساء آية 36 " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم ". وقول رسوله صلى الله عليه وسلم " مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " .
الأمر الذي حدا بفقهاء الإسلام كالإمام مالك وابن حنبل وأبي يوسف إلى منع المالك من استعمال حقه إذا نتج عن ذلك ضرر خطير يلحق بجيرانه. في حين اعتبر الامام الشافعي هذا الالتزام أدبيا لا تترتب عنه أثار قانونية.
يجمع أغلب شراح القانون على أن دعوى رفع المضرة دعوى شخصية كما ورد تعريفها بالفصل 20 م م م ت والذي نص على أنه " توصف بدعاوي شخصية الدعاوي المبنية على التزام شخصي مصدره القانون أو العقد أو شبه العقد أو الجنحة أو شبه الجنحة: ذلك انه طالما كانت تستند إلى الفصل 99 م ا ع الوارد ضمن الباب الثالث من المجلة والذي عنوانه " في الالتزامات الناشئة مع الجنح وما ينزل منزلتها " فانها بذلك تكون دعوى شخصية لتأسيسها على المسؤولية التقصيرية. من ناحية أخرى رأى بعض الفقهاء في قراءة لهم لفقه قضاء بلادنا أنه غالبا ما يقع تبرير دعوى رفع المضرة بالرجوع إلى المبادئ العامة للمسؤولية التقصيرية المؤسسة على الفصلين 82 و83 م ا ع وذلك كلما توفر في جانب المطلوب خطإ تقصيري يتمثل في اخلاله بالتزام قانوني كاحترام المسافات القانونية المنصوص عليها بالفصل 174 م ح ع أو عدم احترام موجبات الفصل 21 م ح ع من أنه : " يراعي ( المالك ) في استعمال حقه ما تقتضيه النصوص التشريعية المتعلقة بالمصلحة العامة أو بالمصلحة الخاصة " وهو أمر لا يغير من طبيعة الدعوى إذ أنه على فرض تأسيسها على أحد الفصلين المذكورين فانها تبقى من الدعاوى الشخصية على معنى الفصل 20 م م م ت سالف الذكر لانبنائها على إحدى صور المسؤولية التقصيرية.
من جهة أخرى وطالما يتحدد مــرجع النظر الحـــكمي لمثل هــذه الدعاوى ( الشخصية ) بالرجوع إلى طبيعتها وإلى مقدار المال المطلوب حسب منطوق الفصل 21 م م م ت فانه أصبح من الضروري تحديد مدى قابلية هذه الدعوى للتقدير. فإن كانت غير مقدرة ولا تقبل التقدير فانها ترجع بالنظر إلى المحكمة الابتدائية حسب الفصل 22 م م م ت وان كانت غير مقدرة وقابلة للتقدير يكون بذلك معيار الاختصاص فيها متحددا بقيمة الطلبات المالية ويمكن أن يختص حاكم الناحية بالنظر فيها أيضا.
يرى جانب من الفقه أن دعوى رفع المضرة هي دعوى شخصية قابلة للتقدير ذلك أن تقدير المضرة أمر يسير جدا وللمحكمة حسب ما خوله لها الفصل 23 م م م ت أن تقدرها بنفسها حسب اجتهادها المطلق وان تعذر عليها ذلك فلها أن تنتدب خبيرا تكلفه بذلك. فان لم تتجاوز قيمة المضرة سبعة آلاف دينار فان النظر في الدعوى يكون من مشمولات قاضي الناحية وان تجاوزته اختصت المحكمة الابتدائية بالنظر فيها.
في حين يرى جانب آخر أنه لا بد من البحث عما إذا كانت المضرة مقدرة أو تقبل التقدير بالاختبار فان كانت غير مقدرة كضجيج المصانع أو الورشات أو دخان المداخن وجب رفضها من قبل قاضي الناحية حكميا وان كانـت قابلة للتقــدير فله النــظر فيها إن كان مقدار المال المطلوب لا يتـــجاوز 7 آلاف دينار.
إن هذا الرأي لم يقع تكريسه في فقه قضاء محكمة التعقيب التي استقرت على اعتبار دعوى رفع المضرة دعوى شخصية غير مقدرة ترجع بالاختصاص للمحكمة الابتدائية ذلك أن " الدعوى في جبر المضرة غير القابلة للتقدير بالمال يقام بها لدى محكمة البداية التي تقضي فيها بحكم ابتدائي إذ لا نظر فيها لمحكمة الناحية والقضاء فيها من هذه الاخيرة يكون خارقا للقانون ويستوجب النقض بدون إحالة" .
من جهة أخرى رأت محكمة التعقيب أن " حجب النور والتهوئة والرؤية أمور غير قابلة للتقدير وبذلك فهي من اختصاص المحكمة الابتدائية" ورأت في قرار آخر أن الدعوى " في رفع مضرة......غير قابلة للتقدير ما دامت المضرة تتمثل في الكشف على ملك الجار مما يجعل الدعوى راجعة بالنظر حكميا الى المحكمة الابتدائية عملا باحكام الفصلين 21 و22 م م م ت وقد بررت المحكمة موقفها بأن المبلغ المقدر لرفع المضرة هنا له صبغة " تغريمية لازالة أسباب المضرة " وليست تعويضية " وهو " أثر من آثار الدعوى وليس بفرع منها مستقل بذاته مما يجعله يتبع الدعوى الأصلية من حيث الاختصاص الحكمي."
إن موقف فقه القضاء المذكور قد تأيد بقرارات الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب التي جاء في قرار أول لها أن " الدعوى المقامة على أساس المسؤولية الناجمة من الاخلال بالتزامات الجوار التي مصدرها القانون من قبيل الدعاوى الشخصية وطبيعة التعويض المطالب به بما ينطوي عليه من الزام بإتيان عمل مادي يتمثل في إزالة سبب الكشف يصير موضوع الدعوى غير قابل للتقدير وبالتــــالي راجعا بالنـــظر حكـــميا للمحكمة الابتــــدائية طـــبق أحـــكام الفـــصل 22 م م م ت"
وما يلفت الانتباه في هذا القرار هو ملحوظات السيد المدعي العام الذي عاب على محكمة الاحالة استنادها على تقدير الإختبار للخسائر المتأتية من رفع المضرة لتأكيد اختصاص حاكم الناحية في النظر في مثل هذه الدعاوي إذ إعتبر ذلك مخالفا " لروح النص إذ لو وقع تطبيقه لاختصت محاكم النواحي في غلق مصانع بمجرد إزالة خيط كهربائي لا يكلف شيئا عند قطعه"
ورأى من ناحية أخرى أن المضرة المتعلقة باحداث مطلات بأرض الغير والكشف عن عقار الجار مضرة " معنوية " لتعلقها بالحق في نور الشمس والضوء والهواء وحقوق كل من الجارين وان الدعوى التي تكون " غير قابلة للتقدير كالدعاوى بمزايا أو منافع تحول طبيعتها دون تقدير قيمة نقدية لها كالطلبات المتعلقة بتنفيذ التزام بامتناع عن عمل مثل سدم نافذة " والتي لها جانب " اعتباري " " غير محسوس شأنها في ذلك شأن الحق من جهة كونه شعورا مستقرا في النفس لا يرقى الى مستوى التجسيم حتى يكون قابلا للتعبير تقديرا كنحو الحقوق الشخصية والملكية وغيرهما" .
وقد ختم ملحوظاته بضرورة التمييز بين المضرة كأساس أصلي للدعوى وبين طلب رفعها من جهة أخرى والذي يقبل التقدير ولكنه لا يعدو أن يكون فرعا من فروعها وأضاف أنه طالما أن العبرة في تحديد مرجع النظر بأصل الطلب لا فيما اتصل به وتولد عنه من فروع فإن قابلية الفرع المتعلق برفع المضرة للتقدير لا يمكن أن ينسحب على " دعوى المضرة " التي لا يمكن الاستجابة لطلب رفعها إلا عقب التحقق من وجودها وثبوتها بصورة يقينية.
من ذلك فإنه يمكن أن نلاحظ أن اعتبار دعوى رفع المضرة دعوى قابلة للتقدير يرجع أساسا إلى خلط بين الطلب الأصلي المتمثل في رفع المضرة وبين كيفية رفعها والذي يعد من قبيل الآثار المترتبة عن الدعوى والتي لا يتحقق منه القاضي إلا بعد أن يتعهد بالموضوع ( وهو أمر يخل بمبادئ الاجراءات والاختصاص الحكمي ومن شأنه أن يساهم في بطء اجراءات التقاضي وتعقيدها) وبذلك يمكن القول أن الاختصاص بالنسبة لدعاوي رفع المضرة يرجع إلى المحكمة الابتدائية وهو ما أكدته محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة في قرار آخر لها .
على هذا المستوى يتجلى لنا أهمية تحديد طبيعة دعوى رفع المضرة خاصة وان بعض الأحكام الصادرة عن قضاة الأصل وحتى قرارات محكمة التعقيب تخلط بين الدعويين وهو خلط " خطير " إن صحت العبارة لمساسه بالاختصاص الحكمي الذي يهم النظام العام. ذلك أنه لو اختصت محكمة واحدة بالنزاع لافتقد النقاش على الأقل لجدواه العملية ولانحصر في إطار نظري بحت. من ذلك فإن حاكم الناحية الذي تعهد بدعوى كيفت على أنها رفع مضرة يكون " مخالفا للاختصاص الحكمي وبالتالي يعد ( ذلك ) تجاوزا ( منه ) لسلطته" .